الأردن: 24 آذار وفخّ الهويّة والضبابيّة

31/03/2011
هشام البستاني - عمّان
المطلوب طرح حلّ هويّاتي آخر: لا أردني ولا فلسطيني. لا يمكن مواجهة هويّة طائفية مثلاً بهويّة طائفية نقيضة، ولا هويّة عنصريّة بهويّة عنصريّة نقيضة. والخطاب الذي أدارته السلطة السياسية في الأردن، بالتشارك مع فصائل منظمة التحرير لترسيخ الانقسام، ينبغي إلقاؤه في سلة القمامة

تتمثّل الإشكاليّات الكُبرى في الأردن بأمرين اثنين، لا ثالث لهما، تتفرّع عنهما كل الأمور الأخرى. الأول هو التفرّد بالسلطة، ما يصادر عمليّاً دور جميع ما يفترض أنّها «مؤسسات الحكم»، من برلمان وحكومة وقضاء. وينبثق عن هذه النقطة كلّ ما يتعلّق بالفساد والمحسوبيّات ومصادرة الحريّات العامة وهيمنة الأجهزة الأمنية على المجتمع، وإهدار كرامة المواطن وبيع القطاع العام وانسحاب الدولة من دورها الاجتماعي ومنع القطاعات المختلفة (معلّمون، عمّال، طلبة، وغيرها) من تشكيل تنظيماتها الحرّة، وتكوين طبقة سياسية/ أمنيّة/ كمبرادورية، تدير البلاد بحسب مصالحها.

والثاني هو الانقسام الإقليمي العنصري على أساس الهويّة الأردنية من جانب، والهويّة الفلسطينية من جانب آخر، وانقسام الهويّة الأولى (الأردنية) إلى مجموعة غير محدودة من الهويات الفرعيّة الجهويّة (شمال ـــ جنوب ـــ وسط) والعشائرية والعائلية. يسهل ذلك التحكّم بالكلّ الاجتماعي، من خلال تحويل الصراع الأساسي من أجل التحرر إلى صراعات داخلية بينية على المكتسبات الصغيرة التي تقدّمها السلطة، وتتحوّل خلالها هذه الأخيرة إلى ضامن للجميع.
ورغم الوضوح الكامل لهذه الإشكاليات، إلا أنّ قوى المعارضة (وخصوصاً الجديدة منها) تتعامى بشكلٍ أو بآخر عنها، لاعتبارات عدّة. الاعتبار الأول هو أنّ ضرورة تشكيل أوسع تحالف ممكن (بحسب قناعات قوى تلك المعارضات) يتطلّب صياغة مطالب عمومية وضبابية وفرعية، ما يجعل هذه المطالب غير قابلة للتحقق، نظراً إلى أنّ مسبّب انعدامها سيظلّ قائماً. إضافة الى ذلك، ستكون مثل هذه المطالب قابلة للتأويل والاستغلال الانتهازي من كلّ مجموعة داخل هذا التحالف، كلّ بحسب أولويّاته وارتباطاته ومشروعه.

الاعتبار الثاني هو دخول أطراف تطرح خطاباً إقليمياً/ عنصرياً داخل تحالف المعارضة. وتطالب هذه الأطراف بسحب جنسيات المواطنين من أصول فلسطينية، وفكّ الارتباط الكامل بالضفّة الغربية، وتطرح أن «لا حلّ قبل حلّ مشكلة الفلسطينيين في الأردن». كما تعيد هذه الأطراف إنتاج حق العودة ورفض التوطين كعنوان لصراع تناحري داخلي، بدلاً من كونه عنواناً لصراع تناحري مع «إسرائيل». وتتحدث الأطراف تلك عن «كمبرادور فلسطيني» نهب البلد، محملة إياه وزر الفساد وبيع القطاع العام.
الاعتبار الثالث أنّ «القيادات السياسية» لهذه المعارضة تشبّك، بوضوح، مع أجنحة وشخصيّات داخل السلطة، أغلبها محسوبٌ على الحرس القديم الذي فقد مواقع نفوذه خلال العهد الجديد، ويعود بقوة الآن مع موجة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد. فأحد أطراف هذه المعارضة اجتمع مع مدير الاستخبارات السابق محمد الذهبي (وهو في عمله) وقدّمه كقيادة وطنية. والبعض منهم، رحّب بتعيين رئيس الوزراء الحالي معروف البخيت، وبعض آخر اجتمع معه، فيما يرتبط آخرون برئيس الوزراء الأسبق ورئيس مجلس الأعيان الحالي طاهر المصري (الذي يرأس أيضاً لجنة الحوار الوطني). يمكّن التشبيك تلك «القيادات» من التفاوض مع أطراف وأجنحة السلطة المختلفة، وحصد إنجازات فئوية أو شخصية، بعيداً عن المصلحة العامة للمجموع الذي لم يبلور مشروعه السياسي بعد.

الاعتبار الرابع هو المحاولة الانتحارية لتحالف المعارضة الواسع هذا لأن يثبت «أردنيّته» بالمعنى الهويّاتي، من خلال الالتزام بارتداء الكوفيّات الحمراء (وليس البيضاء التي ترمز إلى فلسطين)، وتبنّي الخطاب العشائري، والتركيز على مسألة تأييد العشائر لمطالب المعارضة (وهي آلية تستعملها السلطة السياسية أيضاً في دعايتها، ودون وجود إمكانية حقيقية طبعاً لقياس انحياز «العشيرة» كبنية إلى أي طرف). كما يعمد ذلك التحالف إلى إذاعة أغاني عمر العبد اللات التي تحتفل بالجهويّة، وإذاعة السلام الملكي، والهتاف بحياة الملك، وتقديم متحدّثين من عائلات شرق أردنية بشكل شبه حصري، وكل ذلك تمّ في اعتصام شباب 24 آذار في ميدان جمال عبد الناصر يومي الخميس 24 والجمعة 25 الجاري، وانتهى بالقمع الشديد الذي أودى بحياة الشهيد خيري سعد وإصابة المئات. كلّ ذلك الإصرار لتأكيد «أردنية الهويّة» لم يشفع للمعتصمين الذين وُصموا، رغم ذلك، بأنّهم فلسطينيون. وكانت التعبئة المضادّة ضدّهم قائمة على هذا الأساس، وكأنّ المعتصمين لا يعرفون أنّ الهويّة الأردنية مرتبطة بالولاء الكامل للسلطة السياسية، وكلّ معارض (من وجهة نظر السلطة السياسية وبلطجيتها والقطاعات المشحونة من قبلهما) هو بالضرورة «فلسطيني»، حتى لو كان أجداد أجداد أجداده من شرق الأردن. وليس أدلّ على ذلك من مطالبة النائب محمد الكوز (وهو من أصول فلسطينية) المتظاهرين (والعديد منهم من أصول شرق أردنية) بالتوجه إلى جسر الشيخ حسين، ومغادرة الأردن إلى فلسطين! من وجهة نظر السلطة السياسية، «الأردني» هو المُوالي و«الفلسطيني» هو المعارض، كائنةً ما كانت الحيثيّات. لكنّ الأطراف التي تتبنّى برنامج سحب جنسيّات الفلسطينيين، داخل تحالف المعارضة، تمنع أي تحرّك بعيداً عن الهويّتين «الأردنية» و«الفلسطينية» وتشكيل هوية ثالثة ما فوق قطرية تشكّل بديلاً هويّاتيّاً عنهما.

إنّ ما حصل يومي 24 و25 آذار في ميدان جمال عبد الناصر يمثّل جرس إنذار لقوى المعارضة في الأردن، وبالأخص المجموعات الشبابيّة التي تتحرّك على الأرض وتعتقد أنّ حراكها مستقلّ عن أي تأثير من خارجها، أو أنّها قادرة على تحييد أي تأثير من خارجها. والإنذار يختصّ بانحشار المعارضة في زاوية الاعتبارات الأربعة المذكورة أعلاه، وبالتالي شلّ حركتها.
يتمثل المخرج الوحيد من هذه الأزمة بنقاط عدّة. فيجب، أولاً، إلغاء ضبابية المطالب السياسية وتركيزها في مطلب رئيسي هو دستور جديد يعيد السلطة للشعب ويطلق الحرّيات بالكامل، كما ورد في بيان «نقابيّون من أجل 24 آذار»، وتفريع بقيّة المطالب الأخرى (الفساد، الفقر، التعليم ... الخ) منه. ثانياً، نبذ الخطاب الإقليمي/ العنصري تماماً ونهائياً، وعزل كلّ المنادين به خارج أُطر المعارضة. ثالثاً، المطلوب طرح حلّ هويّاتي آخر: لا أردني ولا فلسطيني. لا يمكن مواجهة هويّة طائفية مثلاً بهويّة طائفية نقيضة، ولا هويّة عنصريّة بهويّة عنصريّة نقيضة. والخطاب الذي أدارته السلطة السياسية في الأردن، بالتشارك مع فصائل منظمة التحرير لترسيخ الانقسام، ينبغي إلقاؤه في سلة القمامة. فلسطين ليست للفلسطينيين، بل هي لكل من يريد تحريرها ولكلّ من تتحقق مصالحه بتحريرها. التاريخ يقول ذلك، والجغرافيا تقول ذلك، والعلاقات الاجتماعية الاقتصادية تقول ذلك. وتقع على ابن الكرك والسلط وإربد مسؤولية تحرير فلسطين، مثله مثل أيّ «فلسطيني»، وتتحقّق مصالحه بذلك. لا يمكن فصل «حركة وطنية أردنية» و«حركة وطنية فلسطينية» في الأردن. الحركة واحدة، وعليها أن تناضل في الموقعين، وكلّ خطاب يريد عكس ذلك هو خطاب يريد تأكيد الشرخ لا إلغاءه. أما مواجهة الهوية الأردنية الإقليمية الانعزالية بهوية أردنية منفتحة وديموقراطية، كما تقول بعض أطراف المعارضة في الأردن، فقد أثبتت فشلها في اعتصام الداخلية. الهوية «الأردنية» محمّلة سلفاً بضرورات الولاء الكامل للسلطة السياسية، ولا يمكن المعارضةَ اختطافُها وإعادة إنتاجها لأنّها محمّلة ضمناً بالمعاني.

يبقى الحديث عن أنّ المواطنة شيء، والهويّة شيء آخر. المواطنة هي الوضع القانوني للفرد داخل الدولة، وتمتّعه بكل الحقوق السياسية والقانونية والاجماعية والاقتصادية المترتّبة على هذا الوضع. أما الهويّة فهي الانتماء الطبقي أو السياسي أو الاجتماعي أو الديني، والأسلوب الذي يعبّر به الفرد عن اندماجه أو تجادله مع منظومة فكرية أو معرفية أو سياسية أو اجتماعية. فمثلاً، يمكن أن يكون الشخص مواطناً فرنسياً عربيّ الهويّة، أو إسبانيّاً ماركسيّ الهويّة، أو أميركياً يحرق علم الولايات المتحدة على المسرح، لكونها رمزاً للهيمنة العالمية. لا علاقة للمواطنة بالهوية، والحقوق المترتبة للمواطن غير مشروطة بهويّته أو ولاءاته. هذه الملاحظة لا تعني أنّ الحل هو في تبنّي مفهوم «المواطنة» في الأردن، لسبب بسيط هو أنّ المواطنة لا تمتلك إمكانات الهويّة الجمعية، بل إنّ خطاب المواطنة سيفهم على أنّه خطاب «فلسطيني» في مواجهة خطاب «سحب الجنسيات». إنّ التحدي الرئيسي للمعارضة هو في إنجاز انسلاخ عن الهويات الإقليمية/ العنصرية، وبناء هويّة ثالثة نقيضة.
رابعاً، على «قيادات» المعارضة السياسية أن تتنحّى جانباً، وتتوقّف عن انتهازيّتها التي دفع الناس ثمناً باهظاً لها عام 1989، بعد امتصاص هبّة نيسان بلجنة الميثاق الوطني، ومجموعة من الإصلاحات الديموقراطية الشكلية التي حوّلت الأحزاب السياسية الى ديكورات لا حول لها ولا قوة وقتلت الديموقراطية باسم الديموقراطية. الآن، تشكّلت لجنة الحوار الوطني للغرض نفسه، وهناك، كما أسلفت، قادة في المعارضة ينسّقون مع أجنحة في السلطة. هذه خياراتهم. لكن عليهم أن يقوموا بذلك من صالونات بيوتهم، لا من على ظهور التظاهرات.