"المبادئ الحاكمة للدستور" هي إهانة للثورة وخيانة لأهدافها

05/11/2011
موقف مما يسمى بالـ "المبادئ الحاكمة للدستور"
الجبهة القومية للعدالة والديموقراطية
شهد الأسبوع الماضي تسارعا في المسائل المتعلقة بآلية وضع الدستور القادم نجح من خلالها النظام الحاكم في فرض حديث "المبادئ الحاكمة للدستور" على الساحة السياسية مرة أخرى. وعلى الرغم من قدم هذا الحديث وتعدد جولاته في الستة أشهر الماضية، وتتميز الجولة الحالية بإتباع النظام طريقة "التسريبات الصحافية" لنظم السجال الحالي حول الموضوع، وهي نفس الطريقة التي اتبعها لتسويق القوانين المنظمة للعملية الإنتخابية. فعندها سرب لنا النظام المسودة تلو الأخرى على ما يبدو ليجس بهم نبض الشارع فيما يخص ترتيباته قبل إصدار القوانين ذات الصلة بصورة رسمية.

لكن لمسألة التسريبات هذه بعداً آخر قلما تنبهت له الفصائل السياسية في خضم الصراع المحتدم بينها، يتجلى في قيام "حكومة شرف" بتسريب ترتيبات إنتخابية كارثية في أول الأمر من أجل تهيئة الساحة تدريجيا لقبول ترتيبات لاتزال أخرى أقل إجحافاً, وإن ظلت معيبة جداً, وتصدر في النهاية عن المجلس العسكري الذي يظهر بصورة الهيئة التي تتوسط بين الجميع.

على سبيل المثال، دارت تسريبات الإنتخابات الأولية حول برلمان ينتخب ثلثيه بالنظام الفردي وثلثه فقط بنظام القائمة النسبية المستندة لدوائر متناهية الصغر. وعندها قامت الدنيا ولم تقعد فما كان من النظام إلا أن خفف من جحافة الترتيبات المقترحة مقدما ما أعتبره الجميع تنازلا تلو الأخر، فقبلت الحركة السياسية في النهاية بإنتخاب ثلث المجلس بالنظام الفردي وثلثية بنظام القائمة النسبية المستندة لقوائم صغيرة للغاية أفرغت التمثيل النسبي من مضمونه.

وهكذا بفضل هذا التدرج, الذي يبدو وكأنه ينطوي على تنازلات جوهرية، وتقسيم العمل بين حكومة شرف والمجلس العسكري، نجح النظام القائم بفضل ذلك في فرض نظام إنتخابي مشوه لإنتخاب مجلس شعب يفتقر إلى صلاحيات حقيقة، وذلك بتقديم ترتيبات كارثية في أول الأمر ليتنازل عن بعضها مع مرور الوقت من أجل الحصول على ما يريده في النهاية.

يتبع النظام الآن نفس الأسلوب المتدرج ويوظف نفس تقسيم العمل لتسويق المبادئ الحاكمة. حيث استخدم حكومة شرف، لا المجلس العسكري، في تسريب مسودة لهذه المبادئ تضع الجيش وصيا على الشعب، وتضع ميزانيته وقوانينه فوق المساءلة، وتلغي مجانية التعليم في كل مراحلة، ثم إذ بالمجلس العسكري يعلن اعتراضه على بعض النقاط التي وردت في وثيقة الحكومة ويتبع اعتراضه بتقديم بعض التنازلات الشكلية التي لا تمنع من الوصول إلى وثيقة مضرة في النهاية.

للأسف الشديد زاد الإعلان عن هذه المبادئ من حدة انقسام الحركة السياسية. فبدأ معسكر القوى المدنية يقبل بها من حيث المبدأ مع تحفظه على بعض النقاط التي وردت بالمسودة المسربة، وهي تحفظات غير جوهرية تفتح الباب أمام التفاوض حول المسودة بما يمكن المجلس العسكري من معالجتها في النهاية بتغيير الصياغات المقترحة. أخذ معسكر القوى المدنية هذا الموقف ليعزز من قدرته على منافسة القوى الدينية التي تفوق عليه شعبيا. وهو ما يعني فعليا أنه يراهن على قيام السلطات العسكرية بكبح جماح الإسلاميين بالقوة، سواء كانت قوة فعلية أو قانونية.

أما معسكر القوى الدينية فعارض بشدة "المبادئ الحاكمة" من حيث المبدأ، وتمسك بقيام مجلس الشعب وحده بوضع الدستور كاملا واختيار اللجنة التي ستضعه، وهو ما يعني الأصرار على أن الفائز في المبارة هو فقط من يحق له وضع أصول اللعبة، وفي ذلك إقصاء للتيارات الأخرى من وضع الدستور يخالف أبسط القواعد الدستورية. ولكي يتجاوز هذا المعسكر تبعات موقفه هذا على مد الجدول الزمني للعملية الانتقالية نراه الآن يطالب بتسريع انتخابات الرئاسة بحيث تتم قبل وضع الدستور الجديد. ويعني ذلك فعليا المطالبة بانتخاب رئيس جمهورية وبرلمان في ظل غياب تام للأليات التي تحدد صلاحيتهما وتقسيم سلطات واختصاصات الحكم بينهما. فهل نعود مثلا للعمل بدستور 1971 الى ان ننتهي من وضع الدستور الجديد؟ ومن الذي يحدد ذلك؟

وعليه تعلن الجبهة القومية للعدالة والديموقراطية أنها ترفض الإنحياز لأياً من هذين المعسكرين، لما في مواقفهم من حسابات خاصة على حساب الوطن. وتؤكد الجبهة أن مواقف الجانبين، وطبيعة التنازلات الشكلية التي يجري الحديث عنها الان، لن تؤدي إلى إخضاع كافة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، بشكل كامل لحكومة مدنية منتخبة، والذي تعتبره الجبهة "مربط الفرس". فعدم إخضاع هذه المؤسسات للهيئات المدنية المنتخبة يفرغ أية تنازلات يمكن تقديمها حول صياغات المبادئ الحاكمة من مضمونها. ولذلك تهيب الجبهة بالحركة السياسية أن ترفض أية ترتيبات دستورية لا تخضع هذه المؤسسات للسلطات المدنية المنتخبة بشكل كامل.

وترى الجبهة أن هذه الأحداث إنما تؤكد أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو الشروع فورا في تشكيل لجنة تأسيسية لوضع الدستور منتخبة من القواعد الشعبية، من النقابات المهنية والعمالية واتحادات الفلاحين، من أعضاء هيئات التدريس، ومن الأحزاب والحركات السياسية. فقد دفعنا بالفعل ثمنا باهظا عندما قبلنا بتأجيل وضع الدستور حتى الآن، وستكون خسارتنا أكثر فداحة إذا بدأنا في إنتخاب سلطات مدنية دون تحديد صلاحيات مقبولة لها. ولكي يتم ذلك لابد من نقل الحكم إلى حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة لتشرف هي (لا سلطات تستمد شرعيتها من الدولة السابقة على الثورة) على المرحلة الانتقالية ووضع الدستور، على أن تمثل هذه الحكومة كل أطياف الحركة السياسية والحزبية.

إن مسألة المبادئ الحاكمة للدستور ليست فقط معيبة وغير مقبولة، وهي لا تمثل فقط إهانة للثورة، وإنما هي أيضا أهم تجليات الفخ الذي أوقعتنا فيه الحركة السياسية عندما رهنت أولويات المرحلة الانتقالية وشروطها لحسابات خاصة ومكاسب ضيقة للغاية، ولا سبيل لإصلاح ذلك إلا بترك هذه الحسابات والعودة فورا للعمل على تحقيق أهداف الثورة وفرض أولوياتها على الجميع.

الجبهة القومية للعدالة والديموقراطية

Links