العروبة لا المسيحية هي المستهدفة

28/11/2010
الاعتداء على كنيسة سيدة النجاة
سعاد جروس
المؤسف أنه مرت دونما استنكار أو استهجان دعوة أسقف السريان الأرثوذكس في لندن اثناسيوس داود المسيحيين إلى الهروب فوراً من العراق لأنهم «سيقتلون الواحد تلو الآخر»، ومطالبته الاتحاد الأوروبي مساعدتهم ومنحهم اللجوء!! فهذا الأسقف العراقي لم يطلب المساعدة والحماية من الحكومات العربية المفترض أنها معنية أكثر من أي طرف آخر دولي بما يجري في العراق وبما يتعرض له أهله جميعاً وليس المسيحيون فقط. والمؤسف أكثر أن أياً من الحكومات العربية لم تحرك ساكناً حيال قضية لها ارتدادات خطيرة على مكونات المجتمع العراقي وتداعيات أخطر على مستوى المنطقة والدول العربية عندما تدعها نهباً للتدخل الدولي.

لا شك في أن الاعتداء على كنيسة سيدة النجاة كان مجزرة بحق الإنسانية، لكنه وفي سياق ما يجري في العراق هو واحد من اعتداءات يومية تطاول كل المكونات الاجتماعية الأخرى ومن دون أن نشهد تنديداً بها من الإعلام الغربي، ولم نسمع مناشدات لا من الداخل ولا من الخارج تحض غير المسيحيين على الهجرة كالسنة أو الشيعة أو اليزيدية، كما لم يسبق لأي دولة «غيورة» على الدين أن ارسلت طائرات خاصة تساعد على نقل الجرحى والمصابين. كما تفعل فرنسا التي سارعت إلى نقل 36 عراقيا أصيبوا بجروح مع عشرين من مرافقيهم وتستعد لنقل 94 شخصاً غيرهم خلال الأيام القادمة، على الضد من الجدل الدائر في فرنسا من سنوات بخصوص استقبال المهاجرين المسلمين!!

على مدى سبع سنوات دامية تُرك العراقيون مسلمون ومسيحيون يلملمون أشلاء أحبائهم من الشوارع ودور العبادة، وأعدادا من الضحايا لا تعد ولا تحصى. ما يثير الشك في الهبة المضرية الغربية اليوم لنجدة مسيحيي العراق ليس التدخل لحمايتهم فهذه عادتهم، وإنما تسهيل خروجهم من العراق، وما يدعو للاستغراب الصمت العربي المريب حياله، وكأن مسيحيي العراق من أبناء التابعية الغربية وعلى الاتحاد الأوروبي تقع مسؤولية حمايتهم، حتى لو كان الهدف سحبهم من قلب النسيج العربي! ليكون كل ما يقال عربياً حول خطورة تفريغ المنطقة من المسيحيين محض كلام، لا ترجمة فعلية له على الأرض، وكما سبق وضاعت فلسطين رغم التحذير، سيُسمح اليوم بالقضاء على أحد المكونات الأساسية للهوية العربية.

لا يستطيع أحد أن ينكر أن المسيحيين العرب كانوا من آباء النهضة العربية، وأن وجودهم أعطى للهوية العربية صيغتها الجامعة، فحموا العروبة واحتموا بها، مستظلين بثقافة عربية قائمة على التعدد والتنوع. ولذا فإن تحويل الوجود المسيحي في المنطقة الى قضية تستعيد تاريخ التدخل الغربي في المنطقة بدءا من العراق، ستصيب العروبة في مقتل، إذ سيكرس المحيط العربي بيئة نابذة ليس فقط للمسيحية، بل لقيم العيش والثقافة المشتركة، بما يعنيه ذلك من انغلاق وتخلف، ولعل هذا ما يفسر قيام الجماعة التي تبنت عملية سيدة النجاة بربط اعتدائها على المسيحيين في بغداد بمطالب من الأقباط في مصر، فالهدف لا يقتصر على العراق، بل كل الدول العربية ذات التنوع الديني والاثني، والبداية من المنطقتين الرخوتين العراق الواقع تحت الاحتلال، ومصر التي تشهد بين الحين والآخر أحداث توتر طائفي.

في ظل التغييرات الحاصلة على الساحة الدولية، الأمر لا يتوقف عند حد خلق بيئة نابذة ذات هوية دينية إسلامية، ولا جديد في القول إنها خطوة نحو قيام دول دينية وإعادة تقسيم المنطقة وفق خريطة مذهبية وطائفية وقومية، لا مكان فيها لأقليات صغيرة، لان مجرد وجودها سيكون عائقاً أمام رسم خريطة جديدة، تعترف بإسرائيل دولة يهودية في محيط إسلامي خالص، وسودانين شمالي مسلم وجنوبي مسيحي، وعراقين شيعي وسني وثالث كردي، ومصر لا تخلو من دولة قبطية، والحبل على الجرار... من هنا نستغرب اكتفاء الحكومات العربية بالتفرج على الاستثمار الدولي للوضع المأسوي للمسيحيين في العراق ودفعهم إلى الهجرة، دون السعي الى الحد من ذلك بخطوة عملية على الأرض تعيد الأمور إلى نصابها، فالمسألة ليست في سقوط جرحى وقتلى من المسيحيين رغم كارثية الحدث، لأنهم ليسوا المستهدفين، المستهدف فعلياً هو عراق عربي موحد، الضحايا الآن من المسيحيين، وفيما بعد ستدفع العروبة الثمن بهجرات تُفقر المنطقة وتسلبها أحد عوامل تماسكها.

قبل نحو سبعة عقود ارتكب الحكم في العراق خطأ فادحاً عندما اسقط الجنسية العراقية عن مواطنيه من اليهود اثر ما يعرف بمذبحة الفرهود المختلف لغاية اليوم حول أسبابها ودوافعها والمسؤول عن ارتكابها، فهناك من يعتقد أن الألمان النازيين والانكليز، هم المسؤولون عنها وآخرون يقولون إن الصهيونية العالمية كانت وراءها، لدفع اليهود الى الهجرة، وأيا كانت الأسباب كان من الخطأ إسقاط الجنسية العراقية عن اليهود وتهجيرهم، في وقت كان المجتمع الدولي يتواطأ لاستجرار اليهود من كل العالم إلى فلسطين من أجل بناء الكيان الإسرائيلي، لأن العراق ساهم من حيث يدري أو لا يدري برفد هذا الكيان بنخبة من مواطنيه، خاسراً بذلك أحد مكوناته التي كان من الممكن أن تكون شوكة في عين العنصرية الإسرائيلية.

ما يتعرض له العراق اليوم والبلاد العربية على وقع التقاسم الدولي للنفوذ في العالم أسوأ بكثير مما تعرضوا له إبان الحرب العالمية الثانية، وتهجير المسيحيين من العراق لا يجب أن يقرأ بمعزل عما يخطط لمستقبل المنطقة، وإذا لم تتداعَ الحكومات العربية اليوم للإحاطة بالنار المندلعة في الكنائس العراقية فستصل ألسنتها إلى مضاجعهم، لأن الغرب العلماني الليبرالي في سياسته الداخلية، والطائفي والعنصري في سياسته الخارجية، لن يضيره قيام دول دينية متخلفة في منطقتنا تتعيش على مخلفات اقتصاده، ولن يبدي هذا الغرب حرصاً على عروبة نام أهلها عن نصرتها واستمرؤا تكرار أخطائهم.
:::::
المصدر: "الكفاح العربي"