حدود السياسة التركية

04/07/2011
د. عبد الستار قاسم - فلسطين
في كل تصريحاتها السابقة، وأقوالها وأعمالها، لم تخرج تركيا عما يسمى النظام الدولي الذي تفرضه الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل في كثير من الأحيان. تركيا لم تتمرد على النظام الدولي ولم تخرج منه وعنه، وعلى من يبقى داخله أن يلتزم بمعاييره. المعنى أن هذا النظام الدولي يعترف بإسرائيل وبحقها بالوجود، ولديه الاستعداد للدفاع عنها فيما إذا تعرضت لخطريهدد استمرارها كدولة.

كتبت بتاريخ 6/حزيران/2010 مقالا بعنوان مهلا على تركيا، وكانت مقدمته كالتالي:

المواطن العربي ظمآن، وهو دائم البحث عمن وعما يطفئ ظمأه ولو قليلا؛ وكلما لاح في الأفق أمل أخذ يجري خلفه ملهوفا مستنجدا هاتفا مستصرخا متضرعا ألا يكون الأمل سرابا. المواطن العربي هو أشد الناس إذلالا في الأرض، ووعيا بهذا الإذلال سواء كان مصدره داخليا أو خارجيا، وهو تواق لأن يشعر بنوع من الكرامة، أو أن يحس بالهزيمة وقد فارقت مضجعه قليلا فيهدأ كما يهدأ الناس في بقاع الأرض. وكلما دوى في الأرض صوت يتعاطف مع العرب ولو من قبيل المجاملة اشرأبت أعناق العرب وامتدت أياديهم عسى في ذلك الصوت ما يخرجهم من بؤسهم وشقائهم.

تمسكنا بالاتحاد السوفييتي سابقا، ودائما اتخذناه، ليس جميعنا، البطل المتنظر الذي سيهب لنجدتنا مع كل محنة. وهتفنا للرئيس الأمريكي عندما وعد الفلسطينيين بدولة، وأنزلنا الرئيس الفرنسي شيراك منزلة الأولياء الصالحين عندما زارنا وبجعبته إصرار على إقامة دولة فلسطينية. أما شافيز فصوره موجودة الآن في بيوت عربية كثيرة، ومصنف من قبل الكثيرين على أنه بطل قومي عربي. والآن تتصدر تركيا المشهد، ويحتل رئيس وزرائها مكان الصدارة في قائمة الأبطال الذين سيسعفون المواطن العربي ويخرجوه من محنة الذل المستعصية.

وقد أشرت في المقال أن على العرب ألا يرفعوا سقف توقعاتهم من تركيا لأسباب عدة منها أن تركيا عضو في حلف الأطلسي (الناتو)، وهي تعترف بإسرائيل، وأن العرب ليسوا مؤهلين لكسب أصدقاء لأنهم أشد من يسيء إلى قضاياهم. وذكرت بالتحديد دفاع أردوغان عن غزة في الوقت الذي كان يتحدث فيه محمود عباس عن إصراره على نهج المفاوضات الفاشل.

غدت الأمور الآن واضحة بصورة أفضل أمام العرب المتابعين للسياسة التركية، وتقديري أنها تتلخص بالتالي:

أولا: في كل تصريحاتها السابقة، وأقوالها وأعمالها، لم تخرج تركيا عما يسمى النظام الدولي الذي تفرضه الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل في كثير من الأحيان. تركيا لم تتمرد على النظام الدولي ولم تخرج منه وعنه، وعلى من يبقى داخله أن يلتزم بمعاييره. المعنى أن هذا النظام الدولي يعترف بإسرائيل وبحقها بالوجود، ولديه الاستعداد للدفاع عنها فيما إذا تعرضت لخطريهدد استمرارها كدولة. وفي نفس الوقت، لا يعترف هذا النظام بحق اللاجئين بالعودة، ولا يعترف بحق الفلسطينيين بالمقاومة المسلحة، ولا بإقامة دولة حقيقية مستقلة قادرة على الدفاع عن نفسها. تركيا لم تخرج عن هذا الموقف العام، ولم تتخذ إجراءات من شأنها أن تؤثر على مجرى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية بينها وبين الكيان الصهيوني.

ثانيا: تركيا ما زالت تعترف بالكيان الصهيوني، وما زالت عضوا في حلف الأطلسي، وما زالت تحاول دخول الاتحاد الأوروبي. الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والدفاع عنها يتناقض تماما مع هذه الأحوال.

ثالثا: تقوم تركيا بخطوات الآن لإعادة العلاقات الودية مع إسرائيل إلى سابق عهدها، وإلى عهد ما قبل دايفوس، وقبل أسطول الحرية الأول.

رابعا: طلب وزير خارجية تركيا من حماس الاعتراف بإسرائيل، وبذلك يحاول تحويل كل الفلسطينيين عن مواقفهم الوطنية لصالح الكيان الصهيوني.

خامسا: لم يقم الفلسطينيون بتغيير مواقفهم من الاعتراف بالكيان الصهيوني والدفاع عن الأمن الصهيوني، ولم تظهر بوادر جديدة على الساحة العربية ضاغطة على تركيا أو مشجعة لها لمنازعة الكيان الصهيوني. ولا أظن أن تركيا تريد أن تكون فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، أو عربية أكثر من العرب. ومن يفرط بحقوقه، لا يحق له مطالبة الآخرين بالقتال نيابة عنه.

سادسا: موقف تركيا من القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة هو موقف إنساني وليس موقفا سياسيا استراتيجيا. لقد أحست تركيا بمعاناة أهل غزة، وبالدمار الذي لحق بغزة نتيجة الحرب، فتحركت بزخم خطابي وإعلامي كبير في مواجهة الحصار المضروب على القطاع. ومواقفها حتى الآن لم تتعد هذا البعد الإنساني.

شكرا لتركيا

وبالرغم من كل هذا، موقف تركيا من الحرب على غزة، ومن الحصار، ومن استمرار معاناة أهل غزة أفضل من مواقف فلسطينيين وأنظمة عربية كثيرة. هناك من الفلسطينيين من حرض إسرائيل على استمرار الحرب على غزة عام 2009، ومنهم من يساهم في الحصار؛ وهناك من بين العرب من يشارك في الحصار على غزة، وينسق أمنيا وعسكريا مع الصهاينة، ويطبع العلاقات معهم. موقف تركيا متقدم جدا فيما إذا قورن بمواقف فلسطينيين وأنظمة عربية. فشكرا لها، وليس مطلوبا منها أن تحارب بالنيابة عني.

عن نشرة كنعان الألكترونية، www.kanaanonline.org